2010-04-12

مجرد .. فكرة



" الألم مجرد فكرة ، المرض مجرد فكرة ، الحياة والموت ... مجرد فكرة ،

وكل شيء على هذه الأرض .. محض فكرة "

هكذا أقنعني أبي ، ولقد اقتنعت بسهولة بكلماته ..

ليس فقط لأني أعشقه ، ولا لأنه كل عالمي .. بل أيضاً لأنه كان مؤمناً جداً بهذه الأفكار

كنا نحيا وحدنا سوياً بعد وفاة أمي .. بعد رحيلها علمني أبي درسه الأول

" الحزن مجرد فكرة "

لا وجود مادي للحزن .. نحن من نخلقه ، نحن من نسمح له بأن يقتلنا أحياناً

أو يحفزنا على النجاح في أحيان أخرى .. علمني أن حزني على أمي لن يفيدها بشيء لو سمحت له ان يقتلني

بل على العكس ، إذا جعلت من حزني على فراقها حافزاً للنجاح والاستمرار قوية في حياتي فسيسعدها هذا كثيراً

- ولكن يا أبي ، بما إن حزني لن يفيدها في شيء .. نجاحي أيضاً لن يستطع اسعادها ؟؟

لا يا صغيرتي .. سيسعدها .. سيسعدها كما لو كانت موجودة بيننا ، 

اسمعي يا صغيرتي ... الحياة والموت .. مجرد فكرة ..

يمكنك أن تبعثي في أمك الحياة طالما وضعتِ هذه الفكرة في عقلك

ستظل حية بيننا .. لن تموت إلا إذا صدقنا أنها ماتت .. الموت والحياة مجرد فكرة ..

... وكان هذا الدرس الثاني الذي علمني أبي اياه .

****

حظيت بحياة مثالية ... نعم ، الحياة حين تستمر بدون ألم ، او حزن ، أو فشل ..

هي بالفعل حياة مثالية .. أن تستمر الحياة كما أريدها .. مهما كانت الظروف المحيطة .. تكن حياة مثالية ..

لم أكن أمرض أكثر من دقائق ، بمجرد أن تغزو فكرة المرض أو التعب

عقلي أهاجمها بشراسة حتى تنسحب خائبة .. بعد عدة هجمات لم أعد أشعر بالألم حتى ظننت أنه فقد الأمل في هزيمتي ...

ظننت أني تحولت إلى كائن أسطوري ، نجاحي في عملي كان مبهراً ومثير للشكوك أيضاً لمن لا يعرفني جيداً ،

لقد تقدمت كثيراً في عملي حتى تخطيت من يكبرونني بعشر سنين .

لم أر في هذا شيئاً غريباً ، فأنا أعمل كآلة صماء ، بدون كلل ولا ملل ولا لحظة ضعف أو انهيار واحدة ..

لكن فجأة هاجمني الوحش الذي سرق أمي .. هاجمني السرطان وعاد الألم ، عاد بكل قسوة ..

لأول مرة أعرف الإنهيار ، رغم إيماني بأن المرض مجرد فكرة ..

إلا إنني لم استطع الهرب من صورة أمي وهي تصارعه 

ولا يربطها بالحياة إلا عدة أنفاس تصلها عبر الأجهزة الطبية والأسلاك ..

كادت الصورة التي تأبى أن تغادر خيالي أن تهزمني لولا وجود أبي .

أعاد أبي لي إيماني السابق بأن المرض مجرد فكرة ، ذكرني بأني أقوى من الألم ..

ذكرني بعدد المرات التي هزمته فيه ..كان دفاع أبي مهزوزاً ربما بفعل الزمن أو بفعل الخوف علي ، لكنه ساعدني كثيراً ..

تشبثتُ بالحياة وقاومت المرض بصورة أذهلت أطبائي .. استعنت بالله كثيراً ، استعنت بأمي ..

نعم لقد عادت أمي للحياة مرة أخرى ،كلما اشتد عليّ الألم كانت تأتيني تأخذني بين ذراعيها وتحكي لي

حكايا مسلية حتى أنسى الألم .. في البداية كنت أتعمد استحضارها بعقلي ،

لكن مع مرور الوقت كانت تشعر بي وتأتيني كلما احتجتها .

تخطيت هذه المحنة في زمن خرافي بالنسبة لتاريخ هذا الوحش الضاري ..

وقررت أن أحاربه حتى بعد أن انسحب من جسدي .. كنت أحاربه في أجساد الآخرين ..

خصصت جزء من وقتي لزيارة مرضى السرطان ..

كنت أعرض عليهم أوراقي الطبية أثناء المرض وبعد شفائي منه .. وأحكي لهم قصتي في مقاومته ..

صحيح أني أقنعتُ القليلين بالفكرة ، إلا إنني بعثتُ الأمل في نفوس الكثيرين ..

****

كنتُ لازلت في فترة النقاهة حين حدثت لي الحادثة .. اصطدمت سيارتي بسيارة نقل طاش أحد إطاراتها .. 

فقدتُ الإحساس بكل شبر من جسدي ، لكن عقلي كان لازال حياً نابضاً وبكامل حيويته .

لم أكن أشعر بأي ألم حتى أحاربه .. كنت معلقة بين الحياة والموت سمعتُ كل حرف قاله الأطباء عن حالتي 

وأنا لا أقوى حتى على فتح جفوني .. لم أكن أتألم .. كنت أشعر أني بخير لكن هناك شيء ما

ليس على ما يرام وسيتحسن بالتأكيد ..أنا حيّة طالما أنا أفكر .. أنا حية طالما لم أصدق أني سأموت بعد .


ما ساءني فقط هو انهيار أبي ، أضعف كبر السن إيمانه بأفكاره لكنني كنت أتبناها بقوة ..

الحياة والمرض والألم والموت مجرد فكرة يا أبي .. لا تحزن !

لم أستطع أن أكلمه للأسف .. ولا حتى أن أراه ، أو أكلمه بعيني لقد كان بارعاً في فهم كلام عيوني .

كنت اطمئن على حالته من صوته .. كان دائماً يحدثني وكأنه يعلم أني اسمعه .. وكنت أسمع حديثه مع الأطباء ..

****

أخيراً أدركوا أني أسمع ما حولي .. قالوا لأبي اليوم أنني أستطيع سماعه ..

يارب بث الأمل في نفسه .. يارب أخبره أني بخير أني لا اتألم .. سيكون كل شيء على ما يرام .


***

اليوم أكمل يومي الخامس عشر في الغيبوبة ، هكذا قال أبي للأطباء مستفسراً منهم عن سبب ثبات حالتي ..

لا يمكن أن يسميه استقرار لأن الاستقرار يعني أن الأمور على ما يرام .. لكن حالتي لا تتحسن ولا تسوء .. فلماذا ؟؟

بدأ أبي يفقد أعصابه فحاول الطبيب تهدئته مذكراً إياه بأني أشعر وأسمع كل ما يدور ..

أخذ أبي خارج الغرفة ولم أعد أسمع إلا بضعة حروف متناثرة من كلامه .

لا تقلق يا أبي .. إني أحضر لك مفاجأة سعيدة .. أشعر أني بدأت أتحسن ...

أشعر لأول مرة منذ خمسة عشر يوماً بوخز خفيف في كعب قدمي وباطنها ..

الوخز يصعد لأعلى ويبدو أن الشلل بدأ يلملم نفسه من جسدي وينسحب .. سأنتصر مرة أخرى على الألم يا أبي .

بدأ الوخز يصعد إلى أعلى في جسدي لكنني لا أستطيع تحريك أصابع قدمي كما توقعت !!

ربما السبب يرجع لخمول أعصابي التي نست الحركة طوال هذه الأيام ؟! ربما ..

عاد أبي للغرفة ومعه الطبيب .. لقد جاءا بسرعة فور أن أطلقت الأجهزة المتصلة بجسدي أزيز متواصل غريب ..

عليكِ اللعنة أيتها الأجهزة هل ستفسدين مفاجأتي لأبي ؟؟

هل ستخبرينه بشفائي قبل أن أفعل ؟؟

ستسرقين مني تلك اللحظة العذبة المجنونة حين تلتقي عيني بعينيه

فيكاد يقفز من الفرحة .. آهٍ كم أشتاقُ لتلك اللحظة ..

همس الطبيب في أذن أبي بكلماتٍ لم أستطع تبينها .. أتوقع أنه يخبره بتحسن حالتي ..

لكن عجباً لماذا علا نحيبه ؟؟

أمسك أبي بيدي ولازال يبكي !! ربما هي دموع الفرحة ؟!

" سأفتقدك يا صغيرتي .. سأفتقدك كثيراً ....

ماذا تقول يا أبي ؟؟ سأشفى .. سأتحسن .. سأفتح عيني بعد دقائق

" أنا أعلم أنك تسمعيني .. رددي الشهادتين يا بنيتي .."

أردد ماذا ؟ الشهادتين ؟؟ هل أموتُ حقاً ؟؟ هل انتهت حياتي ؟؟


" .... رددي خلفي .. لا إله إلا الله .. محمد ... "


كيف تنطقها يا أبي ؟؟ كيف تكون بهذه القسوة ؟؟

كيف تخبرني أنك فقدت إيمانك بأني سأحيا ؟؟

لماذا صدقت أني سأموت ؟ وكيف ؟؟

حتى أنت يا أبي ؟؟ حتى أنت ؟؟

لن أواصل المقاومة .. سأنسحب الآن وسأسحب مفاجأتي لك 

لن تجدي معركتي مع الألم طالما أنك استسلمت .. استسلم المحارب الوحيد معي فلماذا أُقاتل ؟؟

سأنسحب بهدوء .. فأنا مجرد فكرة .. فكرة لم يعد يؤمن بوجودها أحد !

هناك 12 تعليقًا:

  1. بجد .. انا جسمي اشعر وانا بقرا البوست ، حاسس اني انا اللي كنت بمر بالظروف ، اسلوك روعة ، للدرجة للوهلة الأخيرة حسيت انك بتتكلمي بجد وانت الشخصية الحقيقية ، انا اقتنعت بفكرة " مجرد .. فكرة " بس انت حطمتيها في الآخر ...... شكرا ليكي

    ردحذف
  2. مش عارفه اقولك ايه

    بوست رائع بكل المقاييس

    الله يسامحك :((

    ردحذف
  3. حرام عليكى ياساره وربنا

    انا عيطططط

    وبعدين حرام بعد ده كله هى تنهزززم

    المفروض كانت تثبتله هو كمان ان فكرته صححح لان احياانا الانسان بيحتاج للى يفكره بمبادئه

    بس أيااا كان القصه روووووووووووووووعه

    تسلم ايدك ياسارورتى

    ردحذف
  4. احم احم
    سلامو عليكو

    صعب قوي الكلام ده
    بجد انا فيه دمعة في عنيا عايزة تنزل
    مش عارف اتكلم بس
    شكرا يا سارة علي الفكرة

    سلام

    ردحذف
  5. تحفة تحفة تحفة بجد

    تصفيييييييقة حارة لك

    انا مش لاقية العبارات و لا الكلمات المناسبة للتعليق

    عجبتني اوي الفكرة و ارى نفسي مؤمنة بها عشان فعلا الحياة كلها مجرد فكرة

    تسلمي يا سارة على ابداعك الرائع دة

    تحياتي

    ردحذف
  6. راااااااااائعه بكل ماتحمله الكلمه من معني
    ان الالم فكره
    وممكن اننا نهذمه:)

    ردحذف
  7. :(
    حرام عليكي و انا قولت ادخل عندك تكوني كاتبه حاجه مفرفشه اديني عيطت اهوه:(
    ما اشاء الله عليكي كلامك بيمس القلب علطول 
    الالم فكره ممكن نهزمه اه بس الموت حقيقه منقدرش نهزمه

    ردحذف
  8. تحياتي لكي
    تحياتي لأفكارك
    تحياتي لأبداعك


    الحزن فكره فعلا
    نخلقها ونصدقها ونضيع فيها


    فكرة لم يعد يؤمن بوجودها أحد
    يكفيكي أيمانك الداخلي بها

    تحياتي

    ردحذف
  9. ابو صلاح "طبيب فاشل "18 أبريل 2010 في 7:32 م

    جااااااااااااااااامده
    بخربيت عقلك با بت
    ايه الفجر ده ..!
    انا كنت هعيط بجد
    بس انا متشكر
    لانك زرعتي جوابا فكره
    والفكره دي بتقول
    الانسان يقدر بغير اي حاجه بس االاول لما يغير فكرته عنها ولا ايه ...!

    ردحذف
  10. عارفة..
    انت اخدتيني من مكاني ووودتيني لك حته وكل مكان كنت فيه وانت بتحكي..
    وخلتيني اسمع معاك (فعلا) كل همسة اتقالت..!!
    انت بتعرفي تعملي كده ازاي..؟؟

    سؤال واحد بس...
    هو انا قلت لك اني بحباللي انت بتكتبيه قبل كده...؟؟ (وش مكسوف)

    ردحذف
  11. جدا راااااااائع

    فدا

    ردحذف
  12. قريت التدوينه عشرات المرات عشان اتاكد انها مجرد قصه

    بصراااحه اول تدوينه بجد تتعبني معاها بالشكل ده

    طريقتك في وصف اللاحظات الاخيرة هااائله تخلي الحجر ينطق

    بجد ابدعتي وعن جداااااااااااره
    واسمحي لي ان ارفع لكي قبعتي تحية لكي

    وللامام دوما

    تحياتي

    ردحذف

Say something...